بدت صالة منزلنا المتواضع مثل ساحة القتال .. ولكنـّه قتال من نوع خاص هذه المرة .. بدأ بنظرات نارية من حماتي لي .. وأعقبها مصمصة للشفتين، مدعمة بأسلحة دمار شامل من كلمات موجـّهة لي تحرق الدم لأن عمر صالحني ولم يستمع إليها .. وعلى الجانب الآخر من الجبهة كانت أمي تحمل الراية وتوجه مدافعها الرشاشة إلى عمر هذه المرة، لأنه تجرّأ وأغضب القطة الوديعة مغمضة العينين اللي هي أنا .. وكدت أبكي في لحظات كثيرة .. وكاد عمر ينفعل في أوقات أكثر .. ولكنـّنا أخذنا عهداً على أنفسنا قبل أن نعزم الأسرتين على العشاء أنـّنا نبتغي رضا الله من رضاهم، وسنستحمل أي كلمة أو غضب من أحد الطرفين، حتى نمتص شحنة الإنفعال التي تسكن الصدور، وتعود الأمور إلى طبيعتها الأولى ..
وكنت عندما أرى الأمور ستشتعل بين ماما وحماتي أبادر عن الحديث عن البيبي، وكيف أن الحمل متعب جداً، وأنـّني أنام كثيراً جداً ولا أطيق الأكل .. ولكن للأسف كان هذا يأتي بنتيجة عكسية بالطبع مع حماتي لأني: باتدلع على إبنها .. فيغمزني عمر عندما ينقلب وجه أمه من كلامي، وكأنه يقول لي: جيتي تكحليها عميتيها ..
قــال عمــر:
يااااااا ساتر .. أخيراً عدّت السهرة على خير .. دي ولا مفاوضات إسرائيل .. بس كنا يعني حنعمل إيه، حنسيبهم زعلانين مننا؟ المهم إنهم نزلوا هاديين وأحسن من الأول بعد ما فرغوا كل شحنة النكد والعتاب عليّا أنا وسارة .. بس الحمد لله إنهم كده راضيين عننا، علشان ربنا يرضى عننا .. وأحلى حاجة عجبتني موقف الرجال؛ والدي وحمايا من الحدوتة .. أخذوا ركن وقعدوا يلعبوا طاولة، وكل واحد ساب مراته تفرغ قنابلها علينا حتى ترتاح .. واضح إن القنابل دي كانت بتنزل على دماغهم هم فحبوا يرتاحوا شوية ..
قــالت ســارة:
ياااااااااااه ده أنا نمت كتير أوي .. السهرة إمبارح إمتصت كل طاقتي في الإحتمال .. همّ نزلوا من هنا ونمت فوراً بدون مقدمات .. واضح إن عمر نزل الشغل من غير ما يصحيني، وتخلى عن فطاره المتين!! موضوع الحمل ده جه على حساب عمر، وهو كمان حنين جداً وخايف عليّ إني أتعب نفسي في أي حاجة، وأنا طبعا ما صدقت، سايقة الدلع على الآخر، بأستغل الفرصة لآخر نقطة:
قــال عمــر:
من ساعة ما سارة سابت الشغل والمصاريف بقت نار، ولسه المدير لم يعطي رأي نهائي في موضوع وظيفة الرد على العملاء من خلال الإنترنت، ولسه متخوف من الفكرة .. يارب يوافق علشان يحل أزمتنا دي يارب .. وخلاص تعبت من فكرة الإقتراض من والدي .. أمتى بقى أقدر أعتمد على نفسي وما أحتاجش لحد تاني؟
يارب إفتح لنا أبواب رزقك الحلال، وأغننا من حلالك ..
قــالت ســارة:
رأيت فكرة مشروع ممتاز على الانترنت، يطلبون تصميم هندسي لمدينة ألعاب ترفيهية تعليمية للأطفال .. وصاحب أفضل تصميم سيأخذ مكافأة سخية، وأيضاً سيعيّن المستشار الهندسي للشركة .. وهي شركة مقاولات متعددة الجنسيات، وراتبها أضعاف ما يتقاضاه عمر ..
عرضت عليه الفكرة فعجبته جداً، وأمضى ساعات على موقع الشركة وهو متحمس جداً لاقترابه من حلمه بالخروج من دوامة عمله الروتيني إلى دائرة الإبداع التي يتمناها، وكان مميز جداً بها في كليته، ولا تتيحها له شركته .. وكان يقضي الساعات يشرح لي أفكار المشروع وأحلامه لو أخذوه هو في هذه الوظيفة الرائعة، وكيف ستتحول حياتنا الى شيء آخر ..
وفجأة وجدته فقد حماسه وانكسر، ولا يتحدث في الموضوع ولا يدخل إلى موقع الشركة .. وعندما سألته عما حدث أجابني بإحباط: خلاص يا سارة، واضح إن الموضوع ده مش لينا ..
قلـت: ليه ياحبيبـي التشاؤم ده؟ إيه اللي حصل ده؟ .. إنت كنت متحمس جداً ..
قـال: لما حسبتها لقيت إنهم عاوزين تأمين لدخول المشروع، حوالي 5 آلاف جنية .. وكمان أنا ح أحتاج معدات تصميم وأدوات ومراجع بمبلغ كبير .. حنجيب ده كله منين؟
قلـت: ياسيدي ربنا يحلها من عنده .. بس بلاش الإحباط ده كله ..
فرد بيأس وانكسار: وبعدين يا ستي يعني هم ح يسيبوا كل الناس اللي متقدمين وياخدوني أنا؟ يعني أنا أزيد إيه عنهم؟
فرددت بحماس: إنت تزيد عنهم إنـّك عبقري وحسـّاس، وبتشوف الأشياء بمنظور خاص بيك، وإنت بنفسك ياما قلتلي إن زمايلك ومديرك نفسه قالوا إن تصميماتك عبقرية، بس محتاجة تمويل كبير .. وبعدين هو أي واحد من الناس الكبار إبتدا حياته إزاي؟ ماهو أكيد كان صغير زيك كده، بس عنده ثقة في موهبته فكبر بيها .. إنت مش عارف قيمة نفسك يا باشمهندس ولا إيه؟
إنتقل الحماس إليه شيئاً فشيئاً ورد وقال: ياستي ربنا يكرمك، بس أنا حآجي إيه جنب كل الناس اللي حتقدم دي؟ مش معقول ح ياخدوني أنا ..
قلـت: أهي هيّ دي محبطات الأعمال اللي الرسول عليه الصلاة والسلام إستعاذ منها .. ياسيدي إعمل اللي عليك واجتهد، والتوفيق على الله .. وبعدين نسيت سلاح ساحر إسمه الدعاء؟ ده يخليك تهزم أي حد قدامك، وتنتصر عليه كمان ..
إستعاد ثقته بنفسه، وتلون صوته بالأمل، ولمعت عيناه وهو يقول: يعني إنتي شايفة كده؟
فرددت بسعادة: طبعاً .. أنا مؤمنة بموهبتك جداً .. يالاّ توكل على الله وابدأ وابذل كل جهدك، ولن يضيعك الله أبداً .. وبكرة تقول سارة كان عندها حق..
إحتضنني بسعادة وهو يقول: ربنا يخليكي ليّا وتفضلي على طول جنبي كده ..
ثم أبعدني عنه عندما تذكر أمراً يؤرقه: طيب والفلوس حنجيبها منين؟ وإنتي عارفة والدي خلص كل مدخراته على جوازنا ..
فرددت بثقة في الله: ما تخافش .. ربنا ح يحلها من عنده ..
في الصباح بعدما ذهب عمر إلى عمله ذهبت في مشوار سري إلى الجواهرجي، وبعت كلّ شبكتي وذهبي قبل أن أتزوج، ولم أترك إلا دبلة زواجي لأن عليها اسم عمر .. يارب المبلغ ده يكفي المشروع .. أكيد عمر حيرفض في البداية، بس ح احاول أقنعه .. بس يارب ما يعملهاش مشكلة
وفي طريق عودتي أخذت جزءاً بسيطاً من المبلغ واشتريت به لحم ودجاج وخضار وفاكهة يعوضنا عن حياة القحط التي نعيشها منذ تركت عملي .. سأعد لعمر وليمة اليوم ..
وعندما دخل عمر البيت وشم رائحة اللحم الشهي ظن أنـّه أخطأ العنوان، لأنه ترك البيت وليس به إلا معلبات .. ثم عندما تأكد من العنوان صرخ مثل طرزان وقال: في بيتنا لحمة يا رجالة؟!! جبتي منين الممنوعات دي يا مدام؟
بلعت ريقي وأنا أتمتم بالمعوذتين في سري، وأخذته لغرفة النوم ليغير ملابسه أولاً وهمست له: مش ح أقول لك إلا لما تقول لي مبروك الأول ..
رد بإبتسامة كبيرة: مبروك يا ستي، إنتي حامل تاني ولا إيه؟
قلـت: يا غلاستك .. لا ياسيدي .. ح أدخل مشروع كبير أوي مكسبه مضمون جداً ..
قـال بغضب: عاوزة تشتغلي تاني ياسارة؟
رددت بدلال: لا يا سيدي، إنت اللي حتشتغل عندي ..
فعقد جبينه وتململ: سارة أنا تعبان ومش رايق للحواديت دي .. قولي فيه إيه؟
بلعت ريقي هذه المرة بصعوبة وقلت: طيب أنا ح أقولك .. بس إهدى كده وفكر الأول قبل ما ترد .. بص ياحبيبي: أنا بعت كل دهبي علشان أوفرلك الفلوس اللي إنت محتاجها للمشروع بتاعك ..
صرخ بعنف وقد تطايرت كلمات الغضب منه: إييييييييييه؟ عملتي إيه؟ إزاي تعملي كده قبل ما تستأذنيني؟ إنتي بتهرجي؟
وضعت يدي على فمه واستحلفته أن يتركني أشرح له: هو أنا عمري عملت حاجة من غير ما أستأذنك يا عمر؟ بس دي ما كنتش حتوافق أبداً عليها .. كان لازم واحد فينا يتحرك قبل ما الفرصة تضيع مننا .. وأنا ياسيدي مش لازمني الذهب ده في حاجة دلوقتي .. وبكرة لما ربنا يفرجها عليك تجيب لي الماس بداله يا سيدي ..
رد بعصبية: برضه كان لازم تستأذنيني الأول ..
قلـت: حقك عليّا .. أنا آسفة .. بس أنا كمان عاوزة حياتنا تتغير، وعاوزاك تكبر .. ويا سيدي لو كنا جينا من برة مرة لقينا الشقة إتسرقت وفيها كل ذهبي كنا ح نعمل إيه يعني؟ مش ح نستعوض الله؟ إعتبره اتسرق ولا ضاع وخلاص ..
رد بعناد: بس أنا كرامتي ما تسمحش إني آخد فلوس من واحدة ست ..
فحككت رأسي علامة التفكير: يااااااا ربي .. أنا شفت الفيلم ده فين قبل كده؟؟ في أي سينما؟ .. ست مين ياحبيبي؟ ده أنا مراتك .. والخير اللي ح يجيلك ح يجيلي أنا كمان .. وبعدين ماهي السيدة خديجة كانت بتساند الرسول عليه الصلاة والسلام بمالها .. إنت يعني أحسن منه؟
فهدأ ولان لمنطقي وقال باستسلام: لا طبعاً .. بس دي تضحية كبيرة منك يا سارة وأخاف أخذلك ..
إبتسمت وقلت: ولا تضحية ولا حاجة .. هو احنا لما نبني حياتنا نبقى بنضحي؟ وبعدين أنا مؤمنة بموهبتك جداً جداً جداً .. وعندي يقين إن ربنا ح يكرمك .. بس إنت يالاّ أبدأ وبلاش كسل ..
أشرق وجهه بالأمل والحب معاً وهو يضمني إليه ويقول: جميلك ده طوق في رقبتي .. ربنا يقدرني ويوفقني علشان خاطرك إنتي يا حبيبتي ..
ا[اتنين متزوجين]ا – الحلقة الخامسة عشرة
قــالت ســارة:“أف دي ريحتها مش حلوة، شيلها بسرعة” .. “لا مش قادرة أطبخ النهاردة هات أكل معاك” .. “سوق بالراحة علشان البيبي” .. “مزاجي مش رايق، عاوزة أخرج حالاً” .. “نفسي في أم الخلول دلوقتي” .. والغريبة إنه مش متضايق ،ومحسسني إني ح أخلف صلاح الدين الأيوبي ولاّ قطز .. وعاطفته ناحيتي أصبحت أعمق وأهدأ .. بيتكلم عني وكأني لست فرد واحد بل عائلته كلها .. اللهم إجمعنا سوياً على حبك ولا تفرقنا أبداً ..
1 التعليقات:
بجد فادنى جداااا الموقع ده جزاكم الله كل خير
إرسال تعليق