أخيراً إستلمت عملي الجديد بعد طول إلحاح من عمر على مديره، وبعد أن وافق المدير مقابل تخفيض جزء من الراتب، لأنـّني لن أحضر وسأعمل من البيت .. لكن مش مهم .. عندما أحسب تكاليف المواصلات والشاي والقهوة إلخ إلخ التي كنت أصرفها في عملي القديم أجد أنـّني أنا الكسبانة .. ولكن العمل ليس سهلاً كما كنت أتخيل، فهو يتطلب يقظة دائمة ولباقة كبيرة في طريقة الكتابة والتعامل مع العملاء .. وكنت أظن أنـّني سأستيقظ كما يحلو لي وأعمل وقت ما أريد، ولكني إيميلي الذي صنعته خصيصاً للعمل مفتوح دائماً على إيميل مدير المشروع ليرسل لي الأوامر كل لحظة .. وكان في البداية يكتب لي في كلمات مختصرة ماذا أفعل؛ أرسلي فاكس العمرانية، ولا تنسي كذا، وذكريهم بكذا، وموعد كذا .. وبعد مرور شهر واحد فقط أصبح يخاطبني بالكلمات فقط؛ فاكس العمرانية، ثم ينهي المحادثة ..
خايفة بعد مرور شهر كمان يرسل لي رموز؛ ظ: يعني عملاء السلام .. و ق: يعني عملاء المريخ ..
لكنـّني سعيدة جداً بهذا العمل، وقادرة على القيام بأعمال منزلي في نفس الوقت، فأكون بأسلق اللحمة وأنا بابعت الفاكسات، وبأقشر البطاطس وأنا بأرسل بالعروض للعملاء .. وكمان خفـّف قليلا من ضغط المصروفات علينا .. وخصوصاً أن عمر حالته النفسية والمزاجية صعبة جداً بسبب المشروع الذي يصممه ..
قــال عمــر:
“أنا اللي جبت ده كله لنفسي” ..
تدور هذه العبارة دائماً في بالي وأنا أعمل في التصميم الخاص بالمسابقة .. لماذا أدخلت نفسي في هذه المشكلة؟ ماذا لو لم ينجح التصميم؟ أكون ضيعت ذهب سارة وتحويشة العمر بلا جدوى؟ ..
هذه الفكرة عندما أصل لها أكاد أصاب بالجنون، وتجعلني في غاية العصبية .. والمسكينة سارة تقابل كل نوبات غضبي وعصبيتي الرهيبة بالهدوء والاحتمال .. ولا تكاد تمل من التشجيع .. ولا يتوقف أملها أبداً ..
آه لو أرى الدنيا بنظرتها الطفولية المتفائلة، سأفعل المستحيل ..
علمت الآن لماذا كان الرسول صلي الله عليه وسلم يستعيذ من عجز الرجال، وكنت أتعجب من علاقتها ببقية الدعاء .. إن هذا العجز أصعب من كل شيء .. يارب لا تخذلني ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين .. أنت وكيلي يارب وأعلم أنك لن تضيعني ..
قــالت ســارة:
“أنا اللي جبت ده كله لنفسي” ..
أتذكر هذه العبارة كلما همّ عمر بالقاء كوب شاي في وجهي إذا دخلت عليه وهو يعمل .. أو وصوته يهدر كالرعد عندما يجد الملح ناقص في الطعام بعض الشيء .. فأغلي من داخلي، ولكنـّني لا أستطيع أن أظهر غضبي منه، بل بالعكس، أهدئه وأضحك معه بأن المرة القادمة ينبهني قبل أن تنفجر القنابل في صوته كي أغلق الشبابيك أولاً .. فيهدأ ويعتذر عن توتـّره الرهيب .. ولكنـّني أخشى عليه من كل هذا .. وأعلم أن الرجال لا يستطيعون التركيز في أكثر من شيء واحد، بعكس النساء .. ولكنـّني أحياناً أستسلم لليأس أنا الأخرى، ولكنـّني لا أشعره به أبداً، بل أشعره انه أفضل مهندس في العالم، وتصميمه ح يكسر الدنيا ..
والمشكلة أنـّني أحمل كلّ هذا الجبل من المسؤولية وحدي، فلم نخبر أيـّاً من الأسرتين بهذا الموضوع كي لا يضغطوا على أعصاب عمر ويتهمونه بتبديد مدخراتي .. وحتى أمي لاحظت أنـّني لا أرتدي سوي دبلة زواجي، فسألتني عدة مرات عن ذهبي، فكنت أرد بمزاح: هو لسه فيه حد يا ماما بيلبس دهب؟ ده بقي مش ستايل خالص ..
وكانت تبتلع إجاباتي مضطرة، وتنظر لي نظرة ذات مغزى وكأنها تعلم كل شيء ..
يا رب كن معنا .. نحن ضعاف وأنت قوتنا .. نحن خائفون وأنت ملاذنا .. نحن صغار وأنت وكيلنا ..
-
-
“سارة .. سارة .. سارة .. إلحقي يا سارة تعالي بسرعة ..”
قمت من مكاني منتفضة على صوت عمر المدوي والذي يرقص من الفرح وأنا أتساءل: خير خير .. فيه إيه يا حبيبي؟
رد عليّ قائلاً: كلمت سكرتير الشركة الجديدة لأطمئن على الأحوال، فبشرني أنـّهم نظراً لضخامة المشروع سيأخذون أفضل ثلاثة تصاميم، وليس تصميماً واحداً ..
فرقصت من الفرحة وأنا أصرخ: بجد؟!! الحمد لله .. الحمد لله .. كده فرصتك بقت كبيرة أوي ياعمر .. يالا شد حيلك وبلاش كسل ..
فقال بصوت ينفجر حماسة: أيوة فعلاً مفيش وقت خلاص .. والله يا سارة مش عارف من غيرك كنت ح أكمل ازاي .. لو كنت لوحدي كان زماني يئست وسبت الموضوع كله .. ربنا يخليكي ليـّا ..إ نتي استحملتيني كتير أوي ..
فرددت بفخر: بس خليك فاكرها!! يا حبيبي إنت مستهين بناس ربنا وكيلهم؟ إزاي يعني؟ وبعدين إنت بجد عبقري .. وبكرة تقول سارة قالت ..
فهمس لي بنظرة ذات معنى: بجد؟ يعني إنتي شايفة كده؟
ففهمت ماذا يقصد وقلت له بلهجة آمرة: يالا يا سيدي مفيش وقت للدلع، عاوزاك تشتغل زي النار .. يالا إنت لسه قاعد؟ إيه الرجالة اللي ما بتسمعش الكلام دي؟ ولا عاوزني أزعق لك قدام إبنك؟
فوضع يدي على بطني المنتفخة وكأنه يشرك إبننا في الحديث معه: والله إنتوا الإتنين وش الخير عليّ .. وأنا حاعمل المستحيل علشان أسعدكم ..
وتركني وانصرف لعمله .. وتلمست بطني كأنـّني ألمس صغيري وأعتذر له أنـّني إنشغلت عنه .. وأخذت أناجيه وأحكي له عن كل ما يشغلني و كل ما أشعر به تجاهه كما أفعل دائماً .. وكيف لا وهو يشاركني نبضي؟
ترى يا صغيري ماذا سيكتب لنا الله؟
هل سنحقق نجاحا كأسراً ونحقق أحلامنا؟
أم ……..؟
دخلتُ في شهري التاسع، أصعب شهور الحمل على الإطلاق، وأخبرنا الطبيب أنـّني حامل في ذكر .. انتفخ جسدي، وتورمت قدماي، وأصبحت أسير بصعوبة من ثقل الجنين .. سبحان الله .. هل لابد من كل هذا العذاب كي تشعر الأم بغلو إبنها؟
أعتقد أنّ هذا هو السبب .. أتخيل لو لم يكن هناك حمل وتعب رهيب وتذهب الأم إلى المستشفى وبعملية بسيطة مثل اللوز مثلاً تستيقظ لتجد إبنها بجوارها أكيد لن يعجبها وستصرخ في الطبيب: إيه ده؟ ماله أسمر كده؟ لا شوف لي واحد مقلّم ..
لكن عندما ينمو بجوار قلبها يوماً بعد يوم، ويشاركها الأنفاس والطعام والنبض والنوم وكل شيء، أكيد لو خيروها بينه وبين عيونها لاختارته ..
ويا رب صبرني على هذا الجهد .. فلا أكاد آكل أي شيء إلا وشعرت بنار داخل جوفي تحتاج المطافي من ضغط البيبي على المعدة .. ولا أستطيع النوم على ظهري إلا وشعرت بأنفاسي تكاد تختنق من ضغطه على الرئتين .. ولا أستطيع المشي إلا وأشعر أن قدماي المنتفختان تئن من ضغط الباشا عليهما .. طيب أروح فين يارب من هذا الإحتلال لكل جسدي؟ ولكنه أجمل احتلال ..
قــال عمــر:
أووووووووووف .. أخيراً سلّمت المشروع، والنتيجة بعد أيام .. أشعر مثل طلاب الثانوية العامة الذين ينتظرون نتيجة الفيزياء .. يارب يعدي الأيام دي على خير ..
أنا متفائل إن لجنة التحكيم من الأجانب الذين لا مصالح ولا مجاملات لهم في هذا البلد .. فقط الجودة والإتقان هما اللذان سيحددان النتيجة ..
ياااااه لو اختاروا مشروعي أنا سأفعل المعجزات .. سأتصدق بمال كثير، وأعمل صدقة جارية لينا كلـّنا، وسأعوض سارة كل ذهبها الذي باعته، وأكثر كمان .. وسأشتري لها هدية رائعة على صبرها معي .. وبعد الولادة سآخذها هي والبيبي في رحلة في جنوب سيناء لأعوضها الضغط الذي عاشته معي .. ونعيش شهر عسل جديد .. وسأشتري هدايا لأبي وأمي ..
طيب وشركتي القديمة هل سأستقيل منها أم آخذ أجازة فقط حتى تستقر الأمور؟ يااااه معقول كل حياتي تتغير بهذا الشكل؟
يارب كن معي ولا تخذلني أمام أهلي وأمام نفسي يارب يارب ..
قــالت ســارة:
هل مفروض الأم تكون وجدت كنز سليمان قبل أن تشتري لوازم المولود؟ .. ما هذا الغلاء الفاحش؟ .. معقول ببرونة من ماركة معينة تتجاوز ثمنها 50 جنيه؟ وأقل بطانية بـ 70 جنيه؟
وأنا كنت فاكرة الجمعية اللي عملتها من مرتبي، وطبعاً قبضتها الأول، ستكفي وتفيض .. لا وأنا كنت متخيلة إن الأشياء التي أشتريتها طوال الحمل للبيبي هي الأساس وباقي أشياء لا تذكر .. ولكن أتضح أنـّني كنت أشتري تبع إعلانات التليفزيون؛ شاور علشان حمام البيبي .. لوشن مرطب لبشرته الرقيقة .. أيس كاب لشعره .. والحمد لله إني اشتريت كام فانلة وسالوبيتين علشان الواحد يقول الحق ..
كنت أظن أنـّني اشتريت أغلب الأشياء حتى كلمتني أمي في التليفون وسألتني عما اشتريته للمولود، فرديت بمنتهي الثقة: خلاص ياماما، كله تمام .. فاضل حاجات بسيطة أوي ..
ردّت ماما وقالت: ربنا يقومك بالسلامة يا حبيبتي .. طيب اشتريتي 12 فانلة نص كم و12 بكم؟
فرددت باستغراب: ليه يا ماما؟ أنا جبت 3 كت بس ..
فردّت بجزع: تلاتة؟!!.. ده طول النهار حيغير هدومه .. وكمان كت؟ .. يا مفترية في البرد ده؟ طيب جبتي الشايات؟
فصرخت: مين يا فندم؟ يعني إيه الكلمة دي؟ بتوع إيه؟ .. أنا لو أعرف أقول على طول يا بيه؟
فردّت بتأفف: دول بيتلبسوا تحت الهدوم علشان يدفوا صدره يا ستي .. طيب جبتي البافتات؟ وقبل ما تسألي دول علشان لو رجـّع بعد الرضاعة ولا حاجة؟
وأحسست بدوار شديد وخوف من التوبيخ الذي سأسمعه حالاً، فألقيت بإجابتي وبعـّدت السماعة عن أذني كي لا أسمع: لا إن شاء الله مش ح يرجـّع يا ماما .. وبعدين ممكن أستعمل كلينكس ولا حاجة ..
صرخت ماما في وجهي قائلة: ………….!!!؟ (((محذوف للرقابة)))
فخفت على أمي من الذبحة المتوقعة التي ستصيبها من ردودي، فقلت لها: يا ماما هو أنا عندي عشر عيال؟ ح أعرف الكلام الغريب ده منين؟ .. قولي لي أشتري إيه وأنا أكتبه وأجيبه .. يالا قولي ..
فأخذت أمي ترصّ قائمة طويلة عريضة بها ألف طلب وطلب، وكأني سألد حضانة وليس طفلاً واحداً .. وأنا أكاد أبكي من كل هذه الكوارث .. ياترى لو بعت أوضة السفرة سيكفي ثمنها؟
والغريب أنـّها لم تذكر “اللوشن المرطب” ولا “الآيس كاب” اللذين اشتريتهم بالفعل.!!!!
حاولت أن أنهي المكالمة بانتصار على أمي أنها نسيت شيئاً هاماً جداً، وقلت بمنتهي الثقة والفخر: نسيتي يا ماما أهم حاجة .. أنا بقى ما نسيتهمش، واشتريتهم فعلاً: اللوشن والآيس كاب ..
فبدأت أعراض الذبحة تظهر عليها، وقالت لي بصوت واهن: إقفلي يا سارة السكـّة قبل ما أقفل في وشـّك أنا..!!
استيقظتُ من نوم متقطع بعد العصر بقليل، وخرجت لأكمل ختمة القرآن التي بدأتها كي لا تفاجئني الولادة قبل أن أنهيها، لأجد منظر غريب طار له قلبي ..
وجدت عمر نائماً على كنبة الصالة بكامل ملابسه حتى بالحذاء .. ويخفي وجهه بين يديه بإحكام .. والظلام يحيط به من كل جانب .. فأضأت الأنوار .. وتلمست جبينه لأجده غارقاً في عرقه .. وليس نائماً كما ظننت .. ولكنه شارد النظرات لا يريد أن ينظر إلي ..
فجذبت وجهه إلي وصرخت في جزع: عمر إنت تعبان؟ .. مالك فيه إيه؟ .. إنت كويس؟
عمـر: ………!!!؟
أنا: يا عمر رد عليّ أرجوك .. فيه إيه .. أنا أوّل مرة أشوفك كده .. فيه إيه؟
فردّ بصوت واهن لا يكاد يـُسمع: نتيجة المشروع ظهرت ..
ففهمت كلّ شيء بدون أن يكمل .. وفهمت أنهم لم يختاروا مشروعه .. فسقط قلبي في قدمي .. ومادت بي الدنيا ..
ا[اتنين متزوجين]ا – الحلقة السادسة عشرة
قــالت ســارة:ولكن علمي بظروف التعاملات التجارية تجعلني أشك في أنهم سيختارونني أنا وسيأخذون أحد الأسماء اللامعة مسبقاً .. عندما أصل إلى هذه النقطة أكاد أبكي مثل الأطفال، وأترك كلّ العمل وأنزوي وحدي .. ولكن ملاكي الحارس تأتيني لتمسح عني كل الاكتئاب واليأس، وتبث في روح جديدة خلاقة تجعلني أعمل من جديد ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق