مر أكثر من شهرين على الحمل، إحساس لا يوصف، لا يضاهيه إحساس آخر، كنـّا ونحن صغار نفرح ببعض حبات الفول عندما نزرعها بأيدينا ونراقبها بالساعات وهي تكبر شيئاً فشيئاً، ونغضب عندما يتخلص منها أحد الكبار كالمعتاد وكأنه قتل جزءاً منا .. الآن هذا الإحساس أشعر به، ولكن بداخل جسدي .. نبضٌ صغيرٌ ينمو، خلية خلية بداخلي .. يتنفس من أنفاسي، ويقاسمني الطعام، ويفرح معي ويحزن معي .. رغم أني لا أشعر بحركته بعد، ولا بطني إنتفخت، لكن أشعر به في كل لحظة كياناً داخل كياني .. رغم ما أعانيه من تعب وإرهاق كبير جداً، من دوار مستمر، ورغبة دائمة في النوم الذي لا ينتهي، ورؤية الطعام كالعدو اللدود، وما يصاحب هذا من خناقات مع عمر وماما لي كي آكل رغماً عن أنفي، لأني بقيت اتنين دلوقتبي مش واحد .. لكنـّني أشعر أنـّني أصبحت إنسانة مختلفة في كل شيء .. مزاجي مختلف، أتوتر بسهولة شديدة، أقلق سريعاً، وللأسف أصبحت عصبية لدرجة لم أكن أتخيلها ..
لم أربط بين هذه التغيرات وبين الحمل إلا عندما رأتني صديقتي في العمل أسبب مشكلة لا داعي لها من عصبيتي الزائدة، فأخبرتني أن كثيراً من النساء يؤثر عليهم الحمل مثلي .. وقرأت في هذا الموضوع لأجد بعض حالات تتغير مزاجاتهم وشخصياتهم تماماً في فترة الحمل .. ماشاء الله، أنا أولد من هنا وأروح السراية الصفرا عدل ..
قــال عمــر:
سارة أصبحت عصبية جداً الأيام دي .. لا تطيق كلمة حتى ولو هزار، وتقلب الموضوع خناقة وحدوتة .. وأنا مقدّر تغيرها من الحمل ولا أحاول أن أعقد الموضوع .. وأصدقائي يؤكدون لي أن هذا شيء عادي ويقصون لي حواديت على الجنان الأصلي اللي شافوه على يد زوجاتهم في فترة الحمل .. لكن بجد تعبت، ووحشتني سارة حبيبتي الوديعة التي تغفر لي كل أخطائي وأتمتع بأنوثتها ورقتها .. لكني أعذرها فهذه ليست طباعها الأصلية، ولابد أن أتحملها فهي تحمل إبني الذي أتمناه من الله .. ربنا يهديها قبل ما أتجنن أنا ..
قــالت ســارة:
أنا بجد زهقت من كتر النصايح اللي باسمعها ليل ونهار من جميع البشر ..
لازم تاكلي كذا ..
ولازم تمشي كده ..
ولازم ولازم ولازم ..
وكأن الحامل دي إنسانة فاقدة العقل ومستنية بنات الصين يقولولها تعمل إيه .. وأكبر مشكلة بتواجهني في الحمل هي شغلي .. أنا كنت قادرة أوفّق بالعافية بين الشغل والبيت، لكن دلوقتي بجد تعبت .. صحتي ضعفت من الحمل، وهي أصلاً ضعيفة، والمشوار المحترم اللي باخده كل يوم يكاد يميتني من كثرة المطبات التي أشعر أنها تسحب روحي معها .. ولكن ماذا أفعل؟
أنا وعمر لا نستطيع أن نستغني عن عملي في الوقت الحاضر من الناحية المادية .. وحتى لو استطعنا فأنا لا أتخيل نفسي ربة منزل؛ أصحى الظهر وأرغي في التليفون في آخر وصفات الطبيخ، وأخبار العيال .. أشعر بالإختناق من مجرد الفكرة .. ولا أريد أن أفكر فيها .. لكني في نفس الوقت خايفة على البيبي وحاسة بالذنب مما أعرضه له .. يارب ساعدني ..
قــال عمــر:
غريبة أول مرة أدخل البيت ولا تستقبلني سارة كالمعتاد .. سارة .. سارة .. إنتي فين يا حبيبتي؟
جاءني صوتها ضعيفاً من حجرة النوم، فطرت إليها وأنا أرتجف من الخوف، فوجدتها مازالت بملابس الخروج شاحبة ولون وجهها يحاكي وجوه الموتى .. جريت عليها وأنا أصرخ: مالك يا سارة فيه إيه؟
فردت بضعف: الحمد لله .. أنا كويسة، ما تقلقش يا عمر ..
قلت بلهفة: كويسة؟ إيه يا حبيبتي ده .. إنتي بتموتي!! إيه اللي حصل؟ ردي عليّ بسرعة؟ ولاّ أقولك، حاجيب ليكي مسكّن وعصير تشربيه الأول، وارفعي رجليكي على المخدات دي علشان تفوقي شوية ..
قــالت ســارة:
أخذتُ الدواء وشربت العصير وشعرت أنـّني أفضل حالاً مما كنت عليه، فشكرت عمر وقلت له: أنا كويسة ما تقلقش ..
قال لي: ألف سلامة عليكي يا حبيبتي .. إيه اللي حصل؟
رديت: مفيش حاجة .. وأنا راجعة من الشغل وراكبة المواصلات السوّاق عمل حادثة وخبط في عربية كانت قدامه، وعمل اهتزاز عنيف في عربيتنا طبعاُ، لدرجة إننا وقعنا من على الكراسي .. وبعدها حسيت إني دخت جداً .. وحسيت بمغص جامد أوي وألم حاد في ظهري من الوقعة .. لكن الحمد لله، أنا كويسة دلوقتي، والبركة في ربنا وبعدين فيك ..
سمعني عمر وأنا أحكي الموضوع بمنتهي البساطة وهو يغلي من الغيظ فرد بعصبية: يعني إيه كويسة؟ كنتي ح تموتي إنتي واللي في بطنك وتقولي كويسة؟!!
قلت بسرعة: ما تكبرش الموضوع يا عمر، مفيش حاجة؟
رد بعصبية: لا طبعاً فيه .. لما تصرّي على شغلك وإنتي كل يوم بتركبي ميت عربية وإنتي حامل يبقي فيه ألف مشكلة .. أنا كام مرة قلتلك بلاش الشغل ده؟ كويس كده لما يحصل لك إجهاض؟
فرددت باستفزاز: يعني إنت خايف على اللي في بطني مش عليّ أنا؟
قال: والله من حقي إني أخاف وأنا شايفك بتستهتري بيه كده .. ده إبني برضه ..
فجننت من رده وصرخت: باستهتر؟ هو أنا كنت رايحة السينما ولا النادي؟ مش الشغل؟ وبعدين مرتبي ده بأعمل بيه إيه؟ باشتري بيه ماكياج وبرفانات؟ ولا كله على البيت وبأساعدك في مصاريفه؟ وفي الآخر تقول لي بتستهتري؟
فصرخ فيّ: هو إنتي كل ما تتكلمي تقولي لي أنا بأصرف وبأساعدك؟ طيب إيه رأيك بقى ده آخر يوم ليكي في الشغل؟
فرددت بعند هائل لا أعرف من أين أتاني: مش ممكن طبعاً ..
فجن من ردي وأصبح انسان آخر: مش ممكن؟!! يعني مش بتسمعي كلامي؟!! طيب يا سارة لما أشوف كلامي ح يتنفذ ولاّ لأ؟ اختاري دلوقتي حالاً .. يا أنا يا الشغل ..
تملّكني الشيطان تماماً وأعماني الغضب وأنا أنفجر فيه بطريقة لم يسمعها مني من قبل: الشغل يا عمر!! إيه رأيك بقى؟ أنا خلاص زهقت من أوامرك وتحكماتك فيّا كانك اشتريتني .. زهقت من حياتي كلها ومش قادرة أستحمل أكثر من كده .. ونفسي أسيب البيت ده اللي أنا حاسة إني جارية فيه مش إنسانة بتحترم طموحها ومستقبلها وأرجع بيت أهلي اللي كنت ملكة فيه ..
رد عمر بذهوووول: إييييييييه؟ بتبيعيني يا سارة؟ وكمان عاوزة تسيبي البيت؟ على العموم إنتي حرة بس إفتكري إنتي اللي بعتيني وأنا مش ح اشتريكي ..
لم أستطع الأنتظار أكثر من هذا وأحسست أن كرامتي ذبحت، فقمت ارتديت طرحتي وخطفت حقيبة يدي وجريت على باب الشقة وعمر ينظر لي، ولكنه صامت لا ينادي عليّ .. فألقيت عليه نظرة أخيرة وتركت بيتي وأغلقت ورائي الباب بعنف ..
لا أعرف حتى الآن كيف وصلت بيت والدي؟ .. أكيد كان كل الشارع بيتفرج عليّا!! وسواق التاكسي اللي ركبت معاه كان رجل عجوز وطيب، أخذ يهدأ فيّا وهو يراني أبكي بحرقة دون أن يعلم بما حدث .. ولكن واضح أن شكلي كان في منتهى التعب والبهدلة .. كده برضه يا عمر أهون عليك أسيب البيت؟ وحتى لا يكلف نفسه أن يبقيني أو يتحايل عليّ .. الله يسامحك ..
واضح إن الحب اللي كان بيقولّي عليه كله كلام في كلام .. خلاص. . أنا كمان ليّا أهل ياخدوا لي حقي علشان يعرف قيمتي ..
قــال عمــر:
حتى الآن لا أستطيع تصديق ما حدث .. سارة تسيب البيت؟ .. وليه ده كله؟!!.. أنا مش شايف إني غلطت في حاجة .. هيّ اللي قعدت تصرخ زي المجانين وتذلّني كل دقيقة إنها بتساعدني في البيت .. دي حاجة خلاص تجنن .. مش قادر أستحمل الذل ده بعد كده .. لا وكمان تبيعني وتختار الشغل، وتسيب البيت، وفاكراني حاجري وراها .. لأ خلّيها .. ولمّا تعرف قيمة بيتها وزوجها ح ترجع لوحدها وغصب عنها كمان ..
ا[اتنين متزوجين]ا – الحلقة الثانية عشرة
قــالت ســارة:ولازم تنامي بالطريقة دي ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق