تحول كل بيتنا إلى فوضى منذ أن أصبح يحيى يمشي .. أصبح لا يوجد مقعد في مكانه ولا مفرش فوق ترابيزة لا سمح الله .. وطبعاً أي ورود أو تحف صغيرة أصبح من المستحيل بقائها مكانها، وأصبح مكانها الوحيد فوق الدولاب كي أنقذها من التحطيم المستمر .. لا أعرف لماذا يحب الأطفال استكشاف كل شيء حتى لو رأوه مائة مرة؟
أتعجب عندما أرى يحيى ماشياً فى أمان الله وفجأة يثبت نظره في اتجاه شيء معين، وهنا تصفر صفارات الإنذار في رأسي من أني في ثواني سأسمع صوت تحطيم أو دمار .. ثم أجده متجهاُ بمشيته التي تشبه مشية البطة إلى هدفه كالصاروخ، ويكون غالباُ كوب أو برواز صورة أو أي شيء .. وهنا أقفز مثل لاعبي السيرك لأنقذ الهدف المسكين من مصيره المحتوم
.. وإن نجحت تبدأ مرحلة من الصراخ من يحيى إحتجاجا على هذا الظلم البائن ..
كنت في البداية أرق لبكائه وأتراجع عن موقفي كي يكف عن البكاء .. ولكني وجدت أنـّه في غاية الخبث، علم أن البكاء يخيفني فاستخدمه كسلاح .. أي شيء يريده بيفتح السارينة .. ولكنـّني انتبهت لهذا السلاح الجديد وأصبحت لا أهتم لصراخه .. حتى عرف بعد فترة أنـّه لا جدوى معي من البكاء .. فأصبح ينصرف عنى وكأنه يتمتم: حسبي الله ونعم الوكيل ..
قـال عمـر:
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ..
الموت من جنود الله التي تدفعنا دفعاً إلى الخوف من الوقوف بين يديه .. لا أعرف كيف اختطف الموت أبي لأتحول فجأة من رجل إلى طفل صغير فقد يد أبيه في الزحام فوقف يبكي ولا يشعر بزحام الدنيا من حوله .. فقط ينتظر وجه أبيه ليعيد له الأمان .. رحمك الله يا أبي .. كم أتعبتك في طفولتي .. وكم عاندتك في مراهقتي .. وكم جادلتك في شبابي ..أندم على كل يوم لم أقبـّل فيه يديك ..
وتبقى مشكلة أمي؛ أنا إبنها الوحيد الرجل، وأخواتي البنات متزوجات وفي بلاد بعيدة مع أزواجهن .. وأمي في حال يرثى لها منذ وفاة أبي .. وأنا يومياً أزورها بعد عملي ولكنها تعيش فى أحزانها وتهمل صحتها .. خوفي عليها يزداد .. ولكن ماذا أفعل؟
قـالت سـارة:
حياتنا انقلبت منذ وفاة والد عمر .. أصبحت لا أراه إلا نادراً .. أصبح يخرج من عمله ويذهب إلى حماتي ليقضي معها بقية الليل .. وأحيانا يبات هناك معها .. وأنا أزورها ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع .. أعد طعام الغداء وأصطحب يحيى وأذهب إليها وننتظر عمر ليأتي ونقضي بقية اليوم معها .. أشفق عليها من أحزانها .. لا أعرف كيف تشعر المرأة لو فقدت شريك حياتها وحبيبها ورجلها الوحيد بعد عِشرة أكثر من ثلاثين عاماً؟؟ .. يتحول حزنها إلى عصبية شديدة لو غاب عنها عمر يوماً .. تظل تبكي وتتهمه بأنه لا يحبها ويفضل بيته وزوجته .. اللي هي أنا .. ولو لم أحضر لها يحيى لتراه صبـّت فوق رأسي كل صراخ الدنيا .. ازدادت أعصابي توتراً وأصبحت تقريباً لا أنام، وبيتي فقد الإستقرار ولا أرى زوجي، ولا أستطيع أن انطق بكلمة .. بل عليّ طول الوقت أن احتمل أعصاب عمر المنهارة وغضب حماتي طوال الوقت ..
زارتنى ماما ورأتني وأنا ذابلة مجهدة، وقصصت عليها ما أنا فيه ..
فردت عليّ: معلش ياسارة استحملي .. جوزك معذور ده برضه والده ..
قلت: أنا عارفة يا ماما والله، ونفسي أخرجه من اللي هو فيه، ومستحملة عصبيته واكتئابه .. بس حاسة إني عايشة في دوامة .. يا دوب أصحى الصبح علشان اشتغل وأجهز الأكل وأشيله وآخد يحيى وأروح لحماتي ونقضي بقية اليوم عندها .. وطول الوقت باستحمل كلام في منتهى الغلاسة .. وكأنـّها عاوزة تقول لي: أنا جوزي مات وإنتي كمان واخدة إبني؟ بجد يا ماما تعبت ومش عارفة أعمل إيه؟
قالت: معلش أهم يومين ويعدوا يا سارة .. خليكي إنتي بنت الأصول اللي تقف جنب جوزها وأمـّه في الظروف دي .. يعنى لو كنت إنتي مكانه مش كان ح يعمل كده؟
رددت وقلت: مش باين يا ماما انهم يومين .. إحنا بقالنا شهرين على الحال ده وعمر مش عاوز يسيبها لوحدها أبداً .. وبصراحة عنده حق بس انا تعبت أعمل ايه؟
فسكتت ماما للحظات وكأنها تفكر في أمر عميق وأجابتني: بصي يا سارة .. خلينا واقعيين، أنا رأيي إنـّك تقولي لعمر يجيب والدته تقعد معاكي هنا ..
انتفضت كالملسوعة: إيه تعيش معايا هنا؟ إنتي بتقولي إيه ياماما؟ هو إنتي مش عارفة طبعها وازاي بتعاملني؟ حرام عليكي ..
نظرت لي ماما وقالت: بصي يا سارة، خليكي عاقلة .. مش معقول ح تفضلوا على الحال ده .. ومش ممكن ح تقولي له إرمي أمك .. علشان ربنا يبارك لك في يحيى .. وبعدين خليها تيجي منك أحسن لأن ده ان آجلاً، أو عاجلاً ح يحصل وهو اللي ح يطلب منـّك إنها تعيش معاكم لأنه ابنها الوحيد الرجل .. يعني هاتيها منك واعرضي عليه إنتي واحتسبيها عند ربنا ..
فسالت دموعي وانا أرى أن كلام أمي منطقى جداً ولا مفر منه: بس يا ماما كده ح نبقى طول اليوم في حرب .. وأكيد ح تحصل مشاكل .. أعمل إيه؟
قالت: والله اتكلي على الله .. وما دمتي بتعملي كده علشان ترضي ربنا وتريحى جوزك يبقى أكيد عمر ربنا ما ح يسيبك أبداً إن شاء الله ..
صليت إستخارة ودعوت الله وقلبي يمتلأ بالخوف من حياتي التي ستنقلب رأساً على عقب .. اقتربت من عمر وهو جالس وحده فى الصالون شارد النظرات، وهمست له: مش تروق كده ياحبيبي.. ده إنت تعرف ربنا وربنا يرحمه إن شاء الله ..
رد مهموماً: ونعم بالله يا سارة .. وهو ح يفضل غالي على طول .. بس كل ما أفتكر والدتي انها لوحدها في الشقة وإنها ممكن يحصل لها حاجة من غير ما أكون معاها باتجنن .. نفسي أكون معاها على طول علشان بالي يرتاح ..
همست في سري: والله عند حق يا ماما خليها تيجي مني أحسن .. ورددت عليه: ربنا يخليها لك يارب .. طيب أنا عندي اقتراح علشان تطمن عليها؛ إيه رأيك تيجي تعيش معانا هنا وأنا أحطها جوة عيني؟
فصرخ فرحاً ورأيت ابتسامته التي لم أرها منذ شهور وهو غير مصدق وقال لي: إيه؟ بتقولي إيه؟ ‘نتى بتتكلمي بجد ياسارة؟ انا كان نفسي أعرض عليكي الموضوع ده بس كنت متردد ..
بلعت توتري وابتسمت له وقلت: ليه بتقول كده ياعمر هو احنا يعني ح نرمي أهالينا؟ ربنا يخليهالك ويقدرني على خدمتها ..
فاحتضنني في قوة وهو يقول لي: بجد مش عارف أقول لك إيه ياسارة .. انتي فعلا بنت أصول .. انا عارف إن ماما متعبة شوية.. بس صدقيني إن شاء الله مش ح تضايقك خاااالص ..
وتركني وانطلق إلى التليفون يزف البشرى لوالدته .. وأنا أردد وأنا أكاد أبكي: خالص خالص خااااااااااالص ..
ا[يوميات بابا عمر وماما سارة]ا - الحلقة السابعة
قـالت سـارة:أصبح يحيى هو صديقي الوحيد والوجة الوحيد الذي أراه يبتسم في وجهي منذ أن زارنا الحزن وأقام لدينا منذ شهرين .. من يوم مات والد عمر ونحن نسكن مع الحزن في كل لحظة .. أخاف على عمر من شدة حزنه على أبيه .. أراه شاردا حزيناً، أستيقظ فلا أجده بجواري وأجده يصلي وحيداً وهو يبكي لله ويسأله الصبر على الفراق .. أحاول بكل طاقتي أن أخرجه مما هو فيه بلا جدوى .. يارب خفف عنه وعنا ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق